adsense

2020/12/04 - 1:03 م

بقلم عبد الغني فرحتي

لا أدري كيف وجدت نفسي واقفا في الصف أنتظر أن يحين دوري؟ لا أدري كيف انتصرت على كل الشكوك والتوجسات وصرت منقادا عن طواعية لأخذ اللقاح الذي طال انتظاره؟ لم أعد أفكر أو أنشغل بشيء سوى أن أقترب من هذه السيدة التي كانت علامات الجمال، على الرغم من وضعها للكمامة، تشع من عينيها العسليتين. هذا فضلا عن الصوت الناعم الذي يحيل كلماتها الرقيقة إلى بلسم يضمد أعمق الجراح.

 حان دوري وتقدمت نحوها. كشفت عن ذراعي حتى قبل أن تأمرني بذلك. غابت عني الهيبة التي كنت أحس بها كلما كنت مضطرا لأخذ حقنة. كما تجردت من كل الأقاويل والأخبار التي يتداولها الجميع بخصوص اللقاح وأهدافه ومصداقيته ومدى فعاليته. نسيت كل ذلك وسرت في كياني قشعريرة غريبة حين كانت تتحسس مكان وضع الحقنة بيديها اللتين لم تمنعني القفازتين اللتين تغطيهما من الإحساس بنعومتهما. لم أشعر لا بوخز ولا باللقاح الذي انطلق يسري بين ثنايا جسدي. أحسست، بعد هذا التطعيم أني غدوت إنسانا آخر، لاحظت أن الخشونة التي كانت تتخلل راحة يدي اختفت وصارت ناعمة. قاموسي اللغوي أيضا تغير وغدت كل مفرداته تحبل بالرقة والعفة والحسن.

  أكثر من هذا وذاك، لمست أن نظرتي إلى الغير بدأت تعرف تحولا جذريا. الجار الذي كنت أتجاهله وأتفادى اللقاء به، صرت أتوقف للسلام عنه والسؤال للاطمئنان عليه. أقرب الناس، زوجتي التي كنت أتصيد هفواتها ولا أقدر تضحياتها وسهرها علي القيام بواجباتها نحوي ونحو الأولاد، وجدت نفسي، منذ أن غرست في ذراعي تلك اليد الناعمة اللقاح المنتظر، أنظر إليها نظرة كلها تقدير وسماحة وامتنان.

وأنا أفكر في هذه التحولات الإيجابية التي أنارت حياتي، بعد أخذ اللقاح، تساءلت مع نفسي: ماذا لو بالفعل، تم التفكير في ابتكار لقاح يغرس في النفوس ثقافة السلوك المدني ومبادئ المواطنة الحقة القائمة على المزاوجة بين الحق والواجب واحترام الغير، الجار والزميل والقرين، ثقافة تكسب الناس الوعي بأن الفضاءات الخارجية هي امتداد لبيوتهم، فيهبون إلى العناية بها والحفاظ على رونقها، تماما كما يعتنون بأرجاء شققهم.

 في خضم هذا التداعي الحر للأفكار، في خضم شعوري بهذه الآثار الإيجابية جدا لهذا اللقاح التي وجدت نفسي مدفوعا لأخذه، وأنا استرجع سحر تلك العينين العسليتين لتلك السيدة الرقيقة التي لقحتني، إذا بصوت يدوي في أذني ويصيح: " أفق يا المزغوب تفطر".