بقلم حسن الإلياسي
يمر فعل السرد
في الرواية بمرحلتين متناقضتين :
أولا : السرد.
ليس لمستوى
السرد حضور قويّ ، غير أنه استعمل كمنطلق لمسار الحلم الذي يمثل النواةَ.فكان
استهلاليا فحسب ، اقتصر توظيفه في البداية ( الفصل الثالث) لأجل تحديد الزمان
(السادس عشر من شهر آب سنة إحدى وتسعمائة وألف) ، والمكان (الدار) ، و الحدث
(فعاينتُ والدي مقبلاً عليَّ).²
السرد
الاستهلالي الموظَّف يقوم به سارد مؤقت ، يموضِع القارئَ / المتلقيَ ضمن السياق
العامّ من خلال استحضار معطياتِه (الزمان/ المكان / الحدث).ثم يتوارى من بعدُ.
لمّا يأت هذا
الشكل السردي لوحده فقطّ ، بل تبعه سرد داخليٌّ غيره ، يقف عند حدّ مخاطبه الأوحد
، ولا يتخطاه لأحد سواه.والقائم به - كالأول - مؤقت ، أيضاً.
إذن ، فلنا
شكلان متضادان من فعل السرد : خارجي (استهلالي) مساحة التلقي من خلاله تكون واسعةً
، و داخلي محدَّد المخاطَب ، من قبيل :«لما فاظت نفسي حملتها مركبة برقية فمرت بها
مرور البرق تقصد السماءَ الثالثة حتى وصلتْ إلى مدينة القضاةِ».³
باستعمال هذا
النمط (السرد المؤقت) ، ففعل السرد يشذ عن المألوف ، أي السرد المتواصل الملازم ،
الذي تتوالى به الأحداث ، حدثاً تلو آخر.
كما ترتبت
الوحدة عن هذا النمَط في ثلاثة عناصر رئيسة ، أولها : الحدث. وثانيها :
الزمان.وثالثها : المكان.بمعنى أن مجيء أزمنة أو أمكنة أو أحداث ذات أهمية كبيرة
لايحصل إلا مرة واحدة. وما دونها إنما هو عضوي ، لايحمل قيمة كبيرة.لذلك ، كان
القول أن كل مكون من المكونات الثلاثة يتصف بالوحدة.
وكذلك ، انحصر
مكون الشخصية الرئيسة في شخصيتي الوالد والابن اللتين تختصّان بمجموعة من الخصائص
نجمِّعها فيما يأتي :
1.الابن :
- سارد مؤقت
أول.
- اهتم بإيراد
السياق (سارد خارجي).
- دونما
تسمية.
- مخاطب.
2.الوالد :
- سارد مؤقت
ثان.
- سارد داخلي.
- دونما
تسمية.
- اهتم بذكر
وقائع ما بعد الموت ؛ وفاء لوعده لابنه بأن يعلمه كل ما رأى وعلِم ، بعد الرحيل.
هناك اختلاف -
على مستوى أهمية الشخصية - بين السرد الخارجي والداخلي ، فالأول تتواجد ضمنه
الشخصيتان الرئيستان(الوالد ، والابن) في موقع مركزي ، وليس المجال مفتوحاً
للشخصية الثانوية والعابرة.وعلى النقيض ، تظهر ضمن مجال السارد الداخلي شخصيات
ثانوية من قبيل ( القضاة ، القاضي الأكبر ، الجالس في الوسَط).⁴
الإلياسي
الإلياسي
ثانيا :
اللاسرد.
بتوقف العملية
السردية ، تظهر وظائف جديدة للشخصيتين الأساسيتين ، وظائف خِطابية صرفة.وهي :
(المتكلم البارز /الواصف / المحاوِر) وكلها ل(الوالد) ، ثمّ (المحاور/ المخاطَب)
اللتين يؤديهما(الابن).
تأخذ
شخصيّة(الوالد) حيزا كبيرا جدّا باعتبارها متكلما بارزاً ، ذا حضور قوي ، يقوم
بدورين مختلفين : الواصف ، والمحاور.
إن أكثر هاتين
الوظيفتين وجوداً هي (الواصف).أما( المحاور) فقليلة الحضور.ذلك أنّ وفاء( الوالد)
الراحل بوعده لابنه اقتضى مساحة وصفية خِطابية واسعة.
إن كانت الشخصيتان
الرئيستان اتخذتا لنفسيهما وظائفَ أخرى ، فإنّ مجال «اللاسرد» ظهرت فيه أيضا
«اللاشخصية» أي الأسماء المجرّدة ، الخارجة عن نطاق التأثير باحتفاظها بموقعها
الهامشيّ كجزء من المجال الوصفي.مثل : (الشعراء/الأطباء/المريض/القضاة/الحسناء).
وظيفة
(الواصف) تتأسّس على الخيال والمقارنة ، موازية المخاطَب الأوحد (الابن).ولكل
منهما سِمات متفردة ، نورِدها في تقسيمنا الآتي :
1-الخيال :
-إيلاء «عالم
الزهرة» أهمية كبرى.
-الكمال
والمثالية ، فساكنة «الزهرة» (فَلَك الخيال) جملة من رفيعي القدر ، لا يشذون عن
الصواب ، هم المثل الأعلى والأكمل في شؤون الحياة جميعها.
-التعدد
المجالي (الدين ، المجتمع ، الثقافة...).
2-المقارنة :
-ثبات الحقيقة
(الزهرة مقام الأبرار الصالحين ، والأرض سجن العاصين) ، إذ لا يبرح
الأرضيون
أحوال النقص والانحطاط والشقاء - خصوصا - في المستوى الديني.
-اعتماد
الخيال كشفاً لنقائص الأرضيينَ ومكانتهم المبتذلة.
أما الوظيفة
الثانية (المحاور) فتحضر ، وكما قلنا سلفا ، في حيّز ضيق بموازاة المحاور المُقابل
(الابن).مثلا :«وقلت لوالدي : يقول بعضهم أنّ الأديان قوانين وضعها العاقلون غير
مقرّين بالأنبياء والرسُل.فقال : لو تأمل الإنسان حكمة كل نبي ورسول التي تفوق
مدارك قومه ، وإذا دقّق في تعاليمها السامية وغايتها الشريفة منها وما يصدر عنها
من الفوائد العائدة على الإنسان بالخير والراحة ، ونظر في معانيها التي هي أرقى
وأعلى من معاني قومه بكثير مع أنه منهم...».⁵
من خلال العملية
الوصفية-المقارِنة ، يبدو التضاد الحاصِل بين الثنائية المكانية (الزهرة والأرض)
في وحدتين دلاليتين مركزيتين متناقضتين ، نستفيض في عرض معطياتهما ما أمكنت
الاستفاضة. وهما :
1-وحدة
المثالية والكمال :
-الزهرة موطن
العابدين الصالحين ؛
-الزهرة جزاء
الصلاح والتقوى ؛
-انعدام الكتب
الدينية ؛
-اللغة واحدة
؛
-غياب
المنتديات والعذرات (أماكن القهوة) ؛
-اكتراث الرجل
بأسرته وقت فراغه ؛
-تحاشي
الاختلاط ؛
-العلم والفن
، والمعرفة مقاييس لانتقاء الزوجة ؛
-التساوي في
اللباس بين الأغنياء والفقراء ، في كل عرس أو وليمة ؛
-غياب التمويه
والطلاء ، والخِضاب ؛
-الاكتفاء بسد
الحاجة من اللباس ، و المأكل ، و المشرب ؛ اتقاء لضرر الإفراط ؛
-إجادة
التعامل مع الطفل في كل صغيرة وكبيرة ؛
-يُسر اللغة
والعلوم ، وقلتهما ؛
-المدرسة محلّ
المنفعة العظيمة للتلميذ ؛
-القضاة أكفاء
؛
-ردّ الحقوق ؛
-المحامون
شرفاء أكفاء.
2-وحدة التردي
والنقص :
-الأرض موطن
العصاة والضلّال ؛
-الأرض عقوبة
العصيان ؛
-مؤلفات دينية
ضخمة تفضي إلى تفرق الآراء ، وحدوث
الاختلاف ؛
-لغات
متعددات تسبّب البغضاء بين الناس ؛
-انشغال الرجل
بالمنتديات والعذرات عن أولاده ، وأشغاله ، ومصالحه ؛
-ترك الأسرة ،
والذهاب للمنتديات والملاهي ؛
-كثرة
الاختلاط المفسد ؛
-الثروة و
مكانة الأسرة معياران لاختيار الزوجة ؛
-التفاوت في
اللباس بين الأغنياء والفقراء ؛
-وجود التمويه
والطلاء والخضاب ؛
-الإفراط في
المأكل والمشرب ، واللباس ما يعود بالضَرَر ؛
-غياب
العِناية اللازمة بالطفل ؛
-صعوبة اللغة
والعلوم ، وكثرتهما ؛
-المدرسة
إفساد أخلاقي للتلميذ ؛
-القضاة غير
أكفاء ؛
-إضاعة الحقوق
؛
-المحامون
أنذال.
______________
-¹لطائف السمر
في سكان الزهرة والقمَر ، ميخائيل الصقّال ، كتاب الدوحة ، يناير 2013
، ص 7 ، 8 ، 19 ، بتصرف.
-²م.ن ، ص 29.
-³م.ن ، ص 29
.
-⁴م.ن ، ص 30.
-⁵م.ن ، ص
180.