adsense

2019/07/13 - 11:23 ص

بقلم الأستاذ عبدالغني فرحتي
قررت مواصلة الدراسة إلى أن حصلت على دكتورة السلك الثالث بميزة حسن جدا.
كنت واثقا من أن بحثي في موضوع أحياء الصفيح والبناء العشوائي سيتواصل، وكنت أتمنى أن يتبنى مركز للبحث العلمي تدارس الظاهرة بالاستعانة بمتخصصين في الميدان، خاصة وأن الخطاب الرسمي صار منشغلا بالموضوع، تحديدا إثر الأحداث التي عرفتها الدار البيضاء خلال الإضراب العام الذي كانت دعت له مركزية نقابية يوم 20 يونيو 1981. لهذا ستفتح مباراة لتوظيف أطر عليا، سيشتغلون كمستشارين بما كان يسمى أم الوزارات.
 ظننتها الفرصة التي كنت أنتظر، على الرغم من الحساسية التي كانت لنا تجاه هذا الجهاز، خاصة بالنسبة لمن كان لا يزال يحتفظ بقناعات اليسار الجذري. اجتزت المباراة بنجاح. كان ارتياحي كبيرا من ذلك النقاش العميق والعلمي الذي عرفته المقابلة مع لجنة تضم خمسة أعضاء، يتميزون بتكوين متميز وبمعرفة موسوعية. لم أكن أتصور أبدا إمكانية أن يتواجد بهذا الجهاز كفاءات علمية بهذا المستوى. تداولنا حتي في مواضيع كنا نخالها من الخطوط الحمراء. في الحقيقة كنت في حاجة إلى الوظيفة بحكم الوضع الاجتماعي لأسرتي، إلا أن حماسي كان فاترا. لكن، بعد ذلك النقاش ــ الذي لم أشعر قط أنه امتحان ــ  اشتعل في كياني الحماس وتولدت لدي الرغبة الأكيدة في الظفر بهذه الوظيفة.
  دام انتظار النتائج أياما عديدة. كلنا كان يعي السبب: فانتقاء الأطر الملتحقة بهذا الجهاز يفرض القيام بأبحاث موازية دقيقة حول المترشحين للفوز بالوظيفة. بعد أيام، سيطرق باب منزلنا ساعي البريد حاملا رسالة تطلب من الالتحاق فورا بالوظيفة، مصحوبا بمجموعة من الوثائق. وهكذا أصبحت من مستشاري بالوزارة.
 لم تكن الوسائل الرقمية متوفرة آنذاك، وبالتالي، كل الأشغال كانت تتم بشكل يدوي. وجدت نفسي أمام معطيات إحصائية وديموغرافية مهمة توفرها المصالح التي أشتغل بها. الأمر الذي فتح شهيتي لمواصلة البحث والدراسة الأكاديمية في مجال السكن غير اللائق وسبل مواجهة تداعياته المؤثرة سلبا على رونق وآمن الحواضر المغربية. وهكذا خلت نفسي سأتمكن من ضرب عصفورين بحجر واحد: الارتقاء بمستواي الأكاديمي والحصول على شهادة الدكتورة من جهة، وتوظيف المعطيات والخبرات المكتسبة في تطوير كفاءاتي كمستشار في هذا المجال. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن.
 ذات يوم، كان الفصل شتاء، وكانت الشمس بأشعتها الخافتة تقترب من المغيب، كنت منغمسا في تصفح تقارير تخص تناسل أحياء من البناء العشوائي على هوامش مدينة كبرى من المدن المغرب. وبعد أن كان الموظفون قد غادروا المكاتب، إذا بمسؤول كبير بالوزارة، وبعد أن كان يسير مسرعا حاملا في يده راديو للاتصال لاسلكي، وقف بباب مكتبي، وأمرني بتلقي معلومات سينقلها لي شخص عبر الهاتف. 
 وبالفعل، ما هي إلا ثوان، حتى رن الهاتف. بعد التحية كلفني بتبليغ هذه الرسالة إلى السيد المسؤول الكبير:
ــ " أخبروا "الحاج " أن كل الترتيبات وضعت، وبحسب الموعد والمكان المحددين، نتمنى أن نكون عند حسن الظن ".
ارتحت لمضمون الرسالة الواضح، كما ارتحت وأنا أنتظر عودة "الحاج "، لأني عدت إلى مواصلة الانغماس في تدارس التقارير المشار إليها سابقا، بحيث لم يوقفني سوى الإحساس بالجوع. مع ذلك، وجدت نفسي مضطرا للانتظار لأكثر من ساعتين، قبل أن يظهر "الحاج ". لم يعتذر عن الـتأخير، لكنه أمرني بمصاحبته، بعد أن أطلعته على مضمون الرسالة. خرجنا فوجدنا سيارة سوداء في انتظارنا. دعاني إلى الركوب بجانبه وانطلق نحو وجهة مجهولة من غير أن يستشيرني عما إن كانت لي التزامات أخرى.
  كان "الحاج" متوسط القامة، حاد العينين، تظهر على تقاسيم وجهه الصرامة والهيبة، قليل الكلام. ورغم مظهره وتكوينه الحديثين، إلا أنه كان يتصرف ككبير أعيان قبيلة من القبائل. لم أملك الشجاعة للاعتذار عن مصاحبته إلى حيث هو ذاهب والتماس التوجه إلى حال سبيلي. لاحظت أننا غادرنا العاصمة في اتجاه الجنوب. بعد صمت لوقت غير يسير، توجه إلي بالقول:
ــ " لا شك أنك تشعر بالجوع، أنا أيضا لم يدخل جوفي شيء منذ الصباح، ذكرني باسمك أولا".
ــ " اسمي طارق ومنحدر من مدينة فاس". أجبت.
ــ " هل لك أطفال؟"
ــ ( قادني حدسي إلى إدراك أن هذا السؤال يضمر السؤال عن وضعيتي العالية وبالضبط، هل أنا متزوج أم لا) لا، نعم آس (اختزال للكلمتين نعم آسيدي في الدارجة)، لا زلت أبحث عن أمهم".
 كنت أنتظر أن يثير ردي ضحكة منه، غير أنه احتفظ بصرامة تقاسيم وجهه، وعاد إلى الصمت مجددا. بعد ما يناهز الساعتين، دخلنا مدينة ساحلية معروفة واتجهنا نحو فيلا تطل على الشاطئ. بمجرد ما اقتربت السيارة، فتحت الباب، سنجد أنفسنا داخل سكن فسيح. في ركن توجد مائدة وضعت عليها أصناف من المأكولات وخاصة أنواع راقية من السمك. وفي الوقت الذي كنا منهمكين في تناول الطعام، ولجت المكان أربع فتيات جميلات في عمر الزهور، يرتدين ملابس مثيرة.
 بدأت أفهم مضمون الرسالة التي كلفت بنقلها إلى "الحاج. بدأت أدرك سبب التواجد في هذا المكان. بمساعدة خادمة، شرعت تلك الفتيات في تهييء مائدة أخرى، وضعت فوقها أنواع ممتازة من المشروبات الكحولية والسجائر الأمريكية. بعد الفراغ من الأكل وتنظيف الأيدي والأسنان، صعد " الحاج" إلى الطابق العلوي لتغيير ملابسه. أما أنا، فقد اشتدت حيرتي وتضاعف قلقي تجاه هذا الوضع الذي وجدت نفسي مورطا فيه. لا أدري، هل أفرح وأبادر إلى الاستمتاع بما تجود به هذه اللحظة الاستثنائية أم علي أن أشكو حظي التعس الذي رماني في بحر هذه التجربة التي لا تعرف نهايتها؟
 بدأت الموسيقى تصدع بأنغام شعبية وإيقاعات تغري على الرقص. وهذا ما حصل بالفعل، بدأت السهرة، وأخذت تلك الفتيات تتناوب على توزيع الكؤوس علينا. في البداية لك أكن مرتاحا إطلاقا. كنت أتصبب حرقا من الحرج الذي تفرضه لحظة التواجد بهذا الشكل صحبة " الحاج " المسؤول الكبير. كان يبدو أن إحداهن تتعامل مع الحاج وكأنها عشيقته وقريبة منه، إذ كانت من حين لآخر تعانقه، تقبله، تحكي نكتا. أما أنا، فلم أكن أدري ما ينبغي علي القيام به. فكرت في الانسحاب، لكني لم أجرأ على ذلك.
 يتبع..